سعدي الحلي صوت الفرات الشجي
رياض العلي:
في البدء كان سائق سيارة اجرة على طريق الحلة -طويريج وكان يحب أن يغني وهو يقود السيارة حيث يطرب له الركاب بسبب حلاوة صوته وجماليته وكذلك الحزن المخبوء فيه ليذكرهم بصوت عبد الامير الطويرجاوي وبقراء المراثي الفراتيين ..
وهي الطريقة التي عرف بها صوت سعدي الحلي واشتهر بها..
هو سعدي جابر حمزة الشمري المعروف بسعدي الحلي والملقب بأبو خالد والمولود في عگد الگرعيين بمحلة المهدية بالحلة مركز محافظة بابل سنة 1922 ويقال ان لقب الحلي استخدمه متأثراً بلقب الموظف في الاذاعة والتلفزيون الاعلامي المعروف زيد الحلي الذي قدمه الى الاذاعة في منتصف الستينات وهو أي سعدي من الحلة فلايوجد مانع من استعمال هذا اللقب..
وهذا يعني ان سعدي ابن المدينة غير أن تأثره الواضح بالغناء الفراتي الطويرجاوي بشكل خاص والريفي بشكل عام جعله حلقة وصل بين غناء الريف وغناء المدينة كما فعل من قبل حضيري ابو عزيز ..
اول من سجل لسعدي الحلي حفلات خاصة هو “عباس مهدي الوادي ابو عامر” صاحب مقهى مشهور في طويريج واول من كتب له هو صديق الطفولة المقرب محمد علي القصاب حيث تعرض الى مسائلة قانونية بعد أن غنى في تلك المقهى موالات (وزارة) و (النيابة) من كلمات القصاب فأعتبرت السلطات وقتها هذه الموالات اساءة لحكومة الثورة وفي السجن قام سعدي بتسجيل حفلة وغنى فيها موال ( والزعامة) وكان يقصد بها عبد الكريم قاسم…
هل نتذكر ياخمري؟
كل من استمع الى بحة سعدي الحلي المميزة ادهشته ..
وتقبل تلك البحة..
بل ان المتلقي أستغرب تلك الطريقة السعدية التي تقوم على مايشبه اعادة الكلمة اللحنية الى الداخل…
داخل حنجرة المغني..
كأنه يبتلع اللحن..
وهو مالم يكن مسبوقاً ولم يحدث في تاريخ الغناء العراقي لحد الان..
وصار من الطبيعي ان نجد ان كل سائق سيارة يضع كاسيت سعدي الحلي في مسجل سيارته…
ترى هل أن تلك التسجيلات الشعبية الشهيرة بمقدماتها مابعد الحداثية والتي كانت مبتكرة جداً سواء في تسجيلات شرهان گاطع او ابو عامر كانت سبباً في شهرة سعدي الحلي؟
بمرور الزمن صار سعدي صوتاً محبباً لدى كل الناس ، ومن كل الفئات الاجتماعية..
هو الصوت الاجش القوي الهادر …
المسلطن الذي لا يستعجل الغناء..
ومن طرائف سعدي الحلي انه حينما قدم الى الاذاعة نجح في اختبار اللجنة الا أن الفنان صادق علي شاهين لم يقبل بحجة انه لا يعرف العزف على آلة موسيقية وبعد أن تعلمها عاد مرة اخرى ورفض شاهين قبوله بحجة ان شكله ليس وسيماً فسأله سعدي هل ان شكله اجمل ام شكل عوض دوخي فأجابه شاهين ان شكله احلى من شكل عوض فرد عليه سعدي (فلماذا اذن) ؟ ويبدو ان سعدي قد تعود على هذا التنمر من حراس الفن الرفيع ومن بعض الفنانيين الذين ضايقهم بكل تأكيد تلك الجماهيرية الشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها سعدي والقبول والمحبة بينه وبين الجمهور …
ويذكر ان سعدي سنة 1969 غنى في حفل زفاف احد اعضاء الفرقة القومية للفنون الشعبية والتي كانت تسمى آنذاك بفرقة الرشيد وكان حاضرا وقتها حقي الشبلي الذي استمع الى صوت سعدي واعجب به فسأله عن عمله فأجاب سعدي انه يعمل سائق اجرة حينها عرض عليه الشبلي ان يعينه في الفرقة القومية للفنون الشعبية الى جانب جبار العگار ومحمد قاسم الاسمر…
سعدي الحلي كان معروفاً في الاوساط الشعبية بواسطة الكاسيت قبل الشبلي بكثير كما ذكرنا آنفاً..
كان من المقدر لهذا الصوت أن يكتسح صوت حضيري وداخل وناصر حكيم والدراجي وغيرهم..
صوت قادم بقوة..
لأنه يقول ما لم يقل غيره من قبل..
كان كما بعد الحداثة في الغناء الشعبي والريفي العراقي..
ويقول فلاح الخياط انه لديه شريط مسجل بصوت سعدي الحلي يقرأ فيه مقتل الامام الحسين (ع) وهذا ليس غريباً على سعدي الحلي هو ابن تلك البيئة الجنوبية النواحة منذ ايام السومريين ولحد الان، وهذا التسجيل موجود الان في اليوتيوب…
سعدي الحلي بمعونة محمد نوشي وبقية الملحنين قدم الطريقة الملائية الفراتية في الغناء المدني بحيث وجدنا الانتقالات النغمية والطريقة في الاداء تختلف عن كل الغناء المعروض..
ففي حين اتجه الغناء السبعيني نحو الزخرفة اللحنية والصور النغمية المستمدة من القصائد الغنائية ذات الصور الشعرية البيئوية والاداء الانيق نجد ان سعدي شق طريقه بشكل مختلف وان كان قدم بعضاً من تلك الاغاني لكن باسلوبه الخاص المتفرد الذي لا يشبه الاخر..
فالالحان السبعينية التي غناها سعدي قدمها بطريقته الخاصة التي تختلف عن تلك الاصوات التي قدمت هذه الاغنية..
صوت سعدي الحلي مزيج من طريقة عبد الامير الطويرجاوي ونموذج المدينة وطور الحسيني والغناء الريفي التقليدي كما قلنا..
وكل هذا خلق لنا طريقة جديدة في الغناء غير مسبوقة…
حينما يقدم لحن لسعدي الحلي كان يغنيه بطريقته الفراتية بل يسحب هذا اللحن لمنطقته ويغنيه بشكل لا يستطيع ان يجاريه احدا غيره…
اتذكر في التسعينات قرأت حواراً معه في مجلة الف باء البغدادية يقول فيه ان صوته وفي كل مرحلة زمنية له حلاوة تختلف عن غيرها…وهو محق في هذا..فحتى اخر عمره بقى صوته يحمل تلك الحلاوة الفريدة التي تدخل الى مشاعر المستمع واحاسيسه..
سعدي الحلي اكثر مطرب عراقي بل وعربي تعرض للتنمر والاشاعات وامتد هذا التنمر الى عائلته وهذا شئ غريب جداً لا يعرف سببه لحد الان وكانت المخيلة العراقية قد ساعدت على نشوء هذه الشائعات عبر النكات التي هي في اكثرها مترجمة او مستوردة من ثقافات أخرى كما يقول موفق محمد حيث بدأت هذه الاشاعات في الثمانينات اثناء الحرب ويرى البعض ومنهم سامر المشعل ان السلطة ساعدت على نشر تلك الاشاعات كنوع من التنفيس الاجتماعي وتفريغ الهموم، بعدما بلغ الشعب من الالام النفسية حد الجنون ، لكن المثير هنا ان نوفل الجنابي في كتابه ( الحلة -عاصمة السخرية العراقية المرة وذكرى الساخرين) يقول ان المقصود بتلك النكات هو الشاعر محمد علي القصاب صديق سعدي الحلي المقرب جدا والذي تعرف عليه في الخمسينات وكتب اغلب اغانيه ولحنها ومنها اغنية سعدي الاولى التي بثت من على اذاعة القوات المسلحة التي كانت تذاع من القصر الجمهوري والتي سميت فيما بعد بأذاعة صوت الجماهير وكانت حينذاك تبث فقط الاغاني..
يقول مطلعها:
(انا اريدك دوم تدلل
حتى ابقى بيك اتوسل
وانت عن الحال ماتسأل
انا اريدك دوم تدلل)
ومن الاغاني التي غناها سعدي الحلي والتي تعد تعبيراً عن هذا النوع من الغناء:
(گلبي يحب كل حلو
ياناس عني اسألوا
الموحلو شلي بيه
ما ريده مااسولف بيه)
و :
( حبيب امك متقبل من احاجيك
روحي معلگة بيك)..
فالكلمات هي للقصاب الشاعر الشعبي المعروف ..
والمثير في الموضوع ان نوفل الجنابي يذكر في كتابه ان القصاب تولع بشاب جميل من اهالي الحلة ولا يستبعد ان يكون القصاب قد كتب كل تلك القصائد الغنائية تبعا لتلك الرغبة والتي غناها سعدي الحلي دون أن يعرف ماذا تعني…
تبعاً لقاعدة المعنى في قلب الشاعر …لذلك نجد سعدي الحلي يقول في لقاء معه انه يشعر بالندم بعد كل تلك السنين…
لماذا؟
لأن المتلقي لا يعرف من هو الشاعر او الملحن..
انه يعرف المغني الذي يردد تلك الاغنيات..
واذا تتبعنا تاريخ الغناء العراقي فأننا نجد أن ليس سعدي فقط من تغنى لحبيبته بصيغة المذكر بل اغلب المغنين استخدموا هذه الطريقة ولا زالوا …
فلماذا اختص سعدي بتلك الاشاعات؟
وعلى ذكر القصاب فأن علاقته بسعدي استمرت لسنوات طويلة ويقال ان القصاب هو الذي علم سعدي الانغام وطريقة غناء المووايل وكان يرافقه دوماً في حفلاته حتى بعد أن انتقل الى بغداد ولا استبعد ان يكون القصاب قد الصاق تلك الشائعات بسعدي ليتخلص هو منها ..
النكات التي اطلقت بحق سعدي الحلي كانت من المسكوت عنه في الثقافة العراقية ومصطلح المسكوت عنه يعني هو المعروف اجتماعياً لكن لا يستطيع احد ان يحكي عنه بالعلن لأنه يمثل وصمة اجتماعية وهذا الامر يمثل حرجاً اجتماعياً واضحاً بالرغم من وجوده بشكل او بأخر في المجتمع..
بل ان بعض النكات استخدمت للنكاية من النظام فحتى لو اخذنا بفرضية ان الاجهزة المعنية كانت هي من بثت هذه النكات في البدء الا أن السحر انقلب على الساحر كما يقال وصارت الكثير من النكات السعدية تطلق للسخرية من النظام وليس من سعدي.والغريب ان تلك الشائعات وصلت الى خارج العراق بحيث نجد ان مسرحية كويتية يقدم فيها طارق العلي شخصية سعدي الحلي ويشير الى تلك الشائعات كأنها حقيقة…
مكصد الحلي يتحدث والكثيرين معه عن حب سعدي لبنت عمه والذي بقي لأخر لحظة في حياته متعلقاً بتلك الصبية وفي بعض الاغاني يبث ذلك العشق لها..
وعلى ذكر أول اغنية بثت لسعدي ثمة رأي يقول ان اول اغنية بثت لسعدي في اذاعة بغداد هي اغنية (تناشدني عليك الناس) سنة 1971 وهذه الاغنية كما هو معروف كانت موجهة الى حبيبة سعدي الحلي الاولى وهي من كلمات كاظم الرويعي والحان عبد الحسين السماوي…
الكثير من اغاني سعدي لم تكن تبث في الاذاعة بسبب الرقابة واقتصر البث سواء في التلفزيون او الاذاعة على تلك الاغاني السبعينية والتي لحنها محمد نوشي والقره غولي والسماوي وغيرهم…
لكن لم يكن الناس بحاجة الى انتظار الاذاعة والتلفزيون ليستمعوا الى اغاني وموالات سعدي فقد كان من اكثر المغنين مبيعاً في محلات التسجيلات..
ومن طرائف سعدي الكثيرة انه تعرض الى الاعتقال بسبب اغنية غناها في جلسة خاصة في بداية حرب الثمانينات يقول فيها:
(دنك ياحلو ليلوحك القناص
شلنا بالقادسية ودوخة الراس
علاوي يزحفه الرائد
يسوة الشعب والقائد)
لكن تم اطلاق سراحه بعد تدخل جهات عديدة سعت لذلك..
ويقال ان وزير الدفاع هو من تدخل ليخلص رقبة سعدي من مقصلة الموت…
واتذكر في التسعينات قرأت حواراً مع سعدي في مجلة الف باء وذكر فيها ان صوته يزداد حلاوة بتقدم العمر وهو لم يكن مخطأً بذلك فصوت سعدي كان يتطور بعد كل مرحلة زمنية ويزداد تألقاً بالرغم من تلك اللثغة السينية الي لم تكن عائقاً امام تقبل الجماهير لبحة صوته الشجية…
هل سمعتم مواله ( شعله منه)؟
ربما سعدي الحلي هو أول مغني عراقي قال في موواليه لفظة ( اه يا ويلي ) والتي ارتبطت به بشكل لا يصدق..
ولا اعتقد ان اي مغني عراقي يستطيع ان يغني هذه المفردة مثلما غناها سعدي بروحيته وبطريقته الفريدة…
اقتراحات القراءة والمشاهدة:
1-مقالة (بيت (المدى).. يستذكر صاحب الصوت العذب سعدي الحلي)/ جريدة المدى العدد 4586 .
2-مقالة (اغاني المعركة) /جريدة المدى العدد 3104.
3- حلقة حوارية في قناة الحرة عراق حضر فيها عازف الكمان فالح حسن والمفني مكصد الحلي.
4- حلقة عن سعدي الحلي لعصام كشيش