ذات يوم صيفي رطب راجعت إحدى الدوائر الحكومية، “ولعله من المستحسن أن لا أذكر هذه الدائرة بالاسم؛ فليس هناك من هو أشد حساسية من العاملين في الدوائر الحكومية” مثلما يقول الأديب الروسي نيقولاي غوغول. في داخل الدائرة وبعد جهدٍ جهيد وصلت للغرفة المقصودة. وجدت فيها عدة موظفين يكادون لا يفعلون شيئاً، واحد منهم فقط يعمل والبقية يخوضون حواراً مملاً، أحدهم توضأ للتو استعداداً للصلاة في مصلى صغير أنشأه في ركن الغرفة. ونحن المراجعين نقف في طابورٍ بطيء السير أمام نافذة موظف يعاملنا بازدراء، لا يكلف نفسه حتى النظر في وجوهنا! في قصته التي بعنوان “المعطف”، يروي غوغول كيف أن موظفاً عمومياً يدعى أكاكي أكاكيفيتش جعل طوال حياته ينسخ الأوراق في دائرته في المكان نفسه بالضبط، بغض النظر عن عدد المدراء الذين تعاقبوا عليه، وبلغ من الروتين لدرجة إن الجميع اعتقدوا بأنه قد دخل هذا العالم مهيئاً لهذا العمل الرتيب الممل.إن معظم الموظفين العراقيين هم أكاكيفيتشيين صغار، حيث مات الإبداع والابتكار والتطوير في داخلهم منذ زمن بعيد. ولِمَ لا يموت إبداعهم وشغفهم إذا كان المُجِد لا يُكافأ والمُقصِّر لا يُحاسَب؟يعد العراق البلد الأعلى في عدد الموظفين نسبةً إلى مجمل القوى العاملة، حيث لديه أكثر من 4 ملايين موظف في القطاع العام. ورغم ذلك تعد إجراءات سير المعاملات فيه من بين الأسوأ والأبطأ حول العالم! فالروتين والبيروقراطية المعقدة يخنقان الجميع. أكاكيفيتش بطل قصة نيقولاي غوغول، هو موظف روسي بائس محط سخرية الجميع، يقرر ذات يوم شراء معطف جديد بعد اهتراء معطفه القديم، فيجمع كل مدخراته ويعيش حياة تقشف لأشهر حتى يوفر مبلغ المعطف. وما أن يرتديه حتى يصبح أكثر ثقةً وحزماً، وسخرية الآخرين منه تتحول احتراماً! ولكن ذات ليلة يعود أكاكيفيتش لنقطة الصفر، حيث يعترض طريقه لصان يسلبان معطفه ويوسعاه ضرباً. يركض صارخاً نحو شرطي فلا يفعل له شيئاً، ثم يذهب من مأمورٍ لآخر من دون جدوى، إلى أن ينتهي به الأمر إلى زيارة جنرال. يقوم الجنرال بتوبيخ أكاكيفيتش بعنف؛ لأنه لم يلتزم بالروتين والنظام المعتاد في تقديم الشكاوى، ليموت بعدها الموظف المسكين بأيام.تتميز المؤسسات الحكومية العراقية بأنها مؤسسات أشخاص، حيث إن الرئيس -الذي لا يعرف شيئاً عن الإدارة والقيادة غالباً- أهم من المؤسسة نفسها، ويجب على الجميع تملقه، أما المسؤولين الأدنى يتميزون بالرتابة وانعدام الشغف والأنفة عن سماع الآخرين؛ لأن مناصبهم قد حصلوا عليها بفعل التزكيات أو الأقدمية في الخدمة وليس عبر إبداعهم وكفاءتهم.
نص علي عزيز
