مثل أي احتجاجات شعبيَّة غير منظمة, ومنزوعة الايديولوجيا, وبلا قيادة؛ سقطت انتفاضة تشرين في قبضة مزاج شعبوي تعامل مع موضوعات السياسة من وجهة نظر حديَّة تعتمد على التبسيط والتنميط كآليتين أساسيتين في الحكم والتبرير.
وانسجاماً مع معاداتها لوجود النخبة وتبشيرها بطهارة الشعب, تقوم الشعبويَّة بمهاجمة وجود المؤسسات الوسيطة التي تمارس وظيفة الجسور الرابطة فيما بين الشعب من جهة, ومؤسسات الحكم والقادة السياسيين من جهة أخرى. وبدلاً من التفريق فيما بين المؤسسات بوصفها أنماط سلوك مستقرة وذات قيمة وقابلة للبقاء, وبين انحراف النخبة السياسية الفاسدة بسلوكها الانتهازي, يلجأ الشعبويون إلى تبني مغالطة الدمج فيما بين هذين البعدين واعتبار الثاني كنتيجة سببية لوجود الأول. وهو ما تجلى تشرينياً, وبكل وضوح في مطلب إلغاء مجالس المحافظات بحجة أنها لا تمثل سوى حلقة فساد زائدة.
من بين جملة المطالب التي رفعت خلال هذه الانتفاضة, برز مطلب إلغاء مجالس المحافظات بوصفه الأكثر تعبيراً عن حقيقة تغلغل النزعة الشعبويَّة وسيطرتها على تفكير وممارسات عدد كبير من الجماعات الاحتجاجيَّة. وخلال أحداث الانتفاضة التي استمرت لعدة أشهر, تم تبني هذا الموضوع وعرضه في عدة صيغ تعبيريَّة؛ إذ أطلق كهتاف في المسيرات الراجلة, ورفع كشعار في اللافتات المعلقة, ودون كمطلب في نصوص البيانات الصادرة. وقد حدث كل ذلك من دون أن تمر هذه المسألة بمتطلبات الحوار التواصلي المفتوح وما يقتضيه من حجاج ونقاش عقلاني. وهو ما يثبت, وبشكل جلي, مدى عمق سيطرة النزعة الشعبويَّة على الجو العام للانتفاضة. وتأتي هذه الحقيقة متطابقة تماماً مع استنتاجات المختصين في دراسة هذه الظاهرة وتجلياتها المختلفة داخل المجال السياسي, والذين أكدوا على اعتمادها للحس العام بنموذجه الجماهيري كمنهج لإنتاج الأحكام وتحديد الأهداف, بديلاً عن الفضاء العام بصيغته الليبرالية.
لم يقتصر حضور مطلب إلغاء مجالس المحافظات على وجود الفضاء التشريني بصيغته الثورية فقط, وإنما تعداه ليشمل مرحلة تأسيس الأحزاب الجديدة والتهيؤ لدخول الانتخابات البرلمانية لعام 2021. فعلى مستوى الأحزاب التي ولدت فيما بعد تشرين, نجد بأن أكثرها شهرة قد لجأ إلى تبني هذا المطلب وتضمينه كإحدى النقاط الرئيسة في برنامجه الانتخابي. ولا يختلف الأمر كثيراً مع المرشحين المدنيين الذين دخلوا إلى هذه الانتخابات بشكل مستقل, حيث فضل معظمهم مهاجمة مجالس المحافظات وإطلاق الوعود المؤكدة على ضرورة إلغائها والتخلص من جميع تداعياتها السلبيَّة. وقد ساهم تظافر كل هذه الأصوات الثوريَّة, والحزبيَّة, والمستقلة, وعبر استعانتها بأساليب البلاغة الشعبويَّة, بتعبئة الرأي العام بصورة نمطية عن مجالس المحافظات ملامحها الأساسية؛ الفساد والانتهازية وعدم الجدوى الإدارية. وبفضل الاستخدام المتكرر لهذه الصورة وتداولها من دون مراجعة نقدية, تحولت وبمرور الزمن إلى ما يشبه الحقيقة التي لا تقبل الشك.
لم تتضح العوائق التي من الممكن أن تسببها هذه المسألة في المستقبل القريب للأحزاب والقوى المدنيَّة, إلا عند إعادة طرح موضوع انتخابات مجالس المحافظات على الساحة السياسيَّة. وبدءاً من مناقشة قانون الانتخابات في أروقة البرلمان, مروراً بإقراره, ووصولاً إلى بدء المفوضيَّة بإجراءاتها العمليَّة, لم تنقطع الصور المتنوعة للمواقف الرافضة لهذه الانتخابات عن الظهور في خطابات مختلف الشرائح المدنيَّة. ومن بين جميع هذه المواقف, برز مطلب مقاطعة هذه الانتخابات بوصفه الأكثر تطرفاً والأشد تهديداً لحظوظ الأحزاب والقوى المدنيَّة.
تأتي الخطورة العملية للمقاطعة من حقيقة أنها لا تؤثر بشكل فعلي إلا في صفوف قواعد المدنيين وفئة الجمهور المحايد ذو التفضيلات السياسيَّة ذات الطابع الرمادي. وفي الوقت الذي تؤدي فيه عملية عدم المشاركة إلى الإضعاف من زخم القوة التصويتيَّة للمدنيين, فإنها لن تقلل من قدرة الأحزاب والحركات المهيمنة على الفوز؛ ويرجع السبب في ذلك إلى طبيعة العلاقة القائمة فيما بين هذه القوى من جهة, وقواعدها الاجتماعية من جهة أخرى, فهي إما من النوع العصبوي المبني على رابطة طائفيَّة راسخة أو آصرة قوميَّة وثيقة, أو إنها من النمط الزبائني القائم على أساس مقايضة الولاء السياسي بالمنافع الماديَّة المقدمة على شكل وظائف أو خدمات, أو رشى مالية. وفي كلتا الحالتين لن يكون لدعوى المقاطعة أي أثر سلبي على هذا النوع من الجمهور.
وبالانتقال من عرض أهم الآثار السلبية التي ستلحق بالقوى المدنيَّة من جرَّاء مقاطعة الانتخابات, إلى مناقشة نوع الحجة التي تقوم عليها هذه الدعوة, نجد بأن أغلب منظريها ومؤيديها إنما يحرصون كل الحرص, على ربطها بنوع من التدليل الأخلاقي السلبي الماثل في صيغة ” إن المشاركة في الانتخابات تساهم في منح الشرعية للقوى السياسية الفاسدة “. يوضح التفكيك النقدي لهذه المقولة هوية الافتراضين الأساسيين اللذين يكمنان خلفها؛ وفي حين يبنى الافتراض الأول على تصور خاطئ لعلاقة الانتخابات بالاحتجاجات, عبر الإشارة إلى أن منح الشرعيَّة للنظام عن طريق المشاركة في الانتخابات, لا يؤدي بالنتيجة إلا إلى سحب المبررات من تحت أقدام المعارضين له, وإبطال حقهم في الاحتجاج عليه والتظاهر ضده. فإن الافتراض الثاني ينتمي إلى قائمة الأفكار الراديكالية التي لا تؤمن بالتغيير التدريجي.
ولتبيان مواطن القصور في الافتراض الأول, يكفي أن نقوم بعرضه على وجهتي النظر الدستوريَّة والسياسيَّة. فدستورياً, كفلت المادة (38) من الدستور العراقي لعام 2005 حرية التظاهر السلمي لجميع المواطنين, جنباً إلى جنب مع حقهم في التصويت والانتخاب والترشيح المنصوص عليه في المادة (20) من نفس الدستور؛ وبالتالي, فلا معنى من الإشارة إلى أن المشاركة في الانتخابات تبطل الحق في الاحتجاج؛ بل وعلى العكس من ذلك تماماً, يمكن للمواطنين أن يمارسوا حريتهم في التظاهر ضد السلطة الفاسدة متى ما دعت الظروف إلى ذلك. أما من وجهة النظر السياسيَّة, فإن عملية المشاركة في الانتخابات والتصويت بناءً على البرامج المقدمة للناخبين, تعتبر بمثابة العقد السياسي الواجب تنفيذه من قبل الأحزاب والمرشحين عند فوزهم. وهكذا يكتسب الاحتجاج والتظاهر مبررهما الأخلاقي ومسوغهما السياسي, فيما لو نكثت القوى الفائزة بمواثيقها, وأثبتت عدم التزامها بما ورد في برامجها الانتخابية من وعود.
وفيما يتعلق بالافتراض الثاني ذو الطابع الراديكالي, فإن مقولة ويندل فيليبس التي تقول بأن” الثورات لا تصنع؛ وإنما تأتي فجأة ” تبدو مناسبة جداً للبدء بالكشف عن مدى تهافت الرؤية الخطيَّة المؤسِسة لهذا الافتراض. وتبعاً لهذا النوع من التفكير فإن الأمور ستجري وفقأ للمخطط الحتمي التالي:ـ المقاطعة الواسعة والمتكررة للانتخابات ستؤدي بالنتيجة إلى سحب الشرعية عن النظام السياسي وعزل القوى الفاسدة التي تسيطر عليه, ومع مرور الزمن وبسيادة مثل هذا الموقف المعارض, لا بد وأن تسير الأمور باتجاه تهيئة الأوضاع اللازمة لثورة كبرى, تنجح في النهاية بإسقاط النظام والتخلص من مجمل الطبقة السياسية الحاكمة.
لكن وعلى العكس من ذلك تماماً, تؤكد التفاصيل الواقعيَّة لمعظم الثورات الحديثة والمعاصرة, وكذلك نتائج الدراسات التي تناولتها بالبحث العلمي, صدق مقولة فيليبس آنفة الذكر. فغالباً ما يكون الحدث الثوري محصلة لتجمع عدد كبير ومعقد من العوامل السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة. وإذا كان لعدد العوامل ودرجة شدتها دور مهم في تعزيز فرص حدوث الثورة, فإن لطبيعة التفاعلات التي تحدث فيما بينها, ومدى تعلقها ببعضها البعض كعوامل مستقلة وتابعة, الدور الأكبر في إمكانية تفجرها من عدمها. واستناداً إلى حقيقة أن إمكانية السيطرة على مجموعة العوامل هذه, فضلاً عن التحكم بشدة واتجاه تفاعلاتها البينيَّة, إنما تقع خارج إطار قدرة جميع القوى السياسيَّة؛ يصبح من الجائز الحكم بأن التعويل على مقاطعة الانتخابات كمقدمة ضروريَّة لتحفيز الوضع الثوري, لا يعدو كونه أكثر من مقولة رغبويَّة لا تمت لحقائق الواقع بأية صلة.
علي زغير جبر، باحث أكاديمي، وناشط سياسي.